-A +A
محمد مفتي
يعتبر دافيد بن غوريون هو المؤسس الحقيقي لدولة إسرائيل، وهو يذكر أنه بمجرد انتهاء الانتداب البريطاني عام 1948 قام بدعوة القوى اليهودية في أرض فلسطين وأعلن أمامهم قيام دولة إسرائيل، حتى دون استشارة زملائه من المحاربين القدامى، وهذه الخطوة سبقتها فعلياً خطوات عديدة تمهيداً لها، لعل أشهرها ما قامت به بعض العناصر المتطرفة -التي شكلت لاحقاً ميليشيات متفرقة مثل الهاجاناه والأرغون وبلماح- من توطين لليهود الهاربين من جحيم الحرب العالمية الثانية داخل الأراضي الفلسطينية، وفي الوقت نفسه كانت تقوم بغزو القرى الفلسطينية مثل «دير ياسين وبلدة الشيخ وقرية أبو شوشة» لقتل المدنيين فيها لدفعهم للهجرة خارج فلسطين وترك أراضيهم.

إسرائيل وقتها لم تكن دولة بالمعنى المتعارف عليه، ولم يكن لها جيش نظامي، ولم يكن لديها قادة عسكريون أو جنود مدربون، بل كان هؤلاء المقاتلون مجموعة من الميليشيات المتفرقة التي تم دمجها في جيش وطني واحد لاحقاً، وقد كان عماد الجيش الإسرائيلي زعماء إسرائيل أنفسهم الذين كانوا زعماء تلك الميليشيات أيضاً، مثل إسحاق شامير ومناحم بيجن وآرئيل شارون وغيرهم، وكان بن غوريون يفتقر إلى التمويل الكافي لتلبية متطلبات الدولة الوليدة، لذلك كان يعتمد كثيراً على التبرعات التي كان يتلقاها من رجال الأعمال اليهود حول العالم، وتذكر بعض الأدبيات التاريخية أن إسرائيل كانت تسعى -وقتذاك- لجمع التبرعات من اليهود في الغرب رافعة أسوأ شعار عنصري يمكن استخدامه على مدار التاريخ، فقد كان شعارهم «ادفع دولاراً تقتل عربياً».


بعد إعلان بن غوريون تأسيس دولة إسرائيل خاض العرب ضده حرباً عسكرية عام 1948، وعندها لم يجد بن غوريون أمامه سوى خداع العرب؛ فأعلن موافقته على هدنة مؤقتة لإعطاء فرصة للدول العظمى للتدخل وإيجاد تسوية بين العرب وإسرائيل، وقد استغل هذه الهدنة لجمع أكبر قدر ممكن من الأموال والعتاد العسكري، مما أسهم في تمكينه، لاحقاً، من تغيير الموقف العسكري لصالحه، وقد نتج عن حرب 48 بقاء الضفة الغربية وقطاع غزة مع العرب، غير أنهما لم تغب يوماً عن أعين قادة إسرائيل.

كان بن غوريون مؤمناً بأن مساحة إسرائيل هي تلك المساحة التي تحددها آلته العسكرية، فأينما توغلت مدرعاته واستطاعت احتلال المزيد من الأراضي فهي ملك إسرائيل وتابعة لها، ولعل تصريح مناحم بيجن الشهير بعد فوزه برئاسة الوزراء عام 1977 يؤكد ذلك، فعندما سأله أحد الصحفيين عن دور حكومته تجاه الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967، أجاب بيجن علانية ودون استحياء: «عن أي أراضٍ تتحدث؟!.. إنها أراض محررة وليست محتلة.. وهي جزء لا يتجزأ من دولة إسرائيل».

بعد سنوات من رئاسة بن غوريون للحكومة الإسرائيلية -عقب تأسيس دولة إسرائيل- اضطرته ظروف صحية للابتعاد عن الحياة السياسية، وجاء خليفته موشى شاريت الذي كان يؤمن بمبدأ السلام مع العرب، وقد سعى شاريت للتفاوض مع بعض الزعماء العرب من خلال عدد من القنوات السرية لإيجاد صيغة للسلام، وقد أزعج هذا الأمر بن غوريون كثيراً (الذي كان قادة الجيش الإسرائيلي يكنون له الولاء حتى بعد ابتعاده عن الحياة السياسية) فلم يكن من مؤيدي السلام مع العرب؛ لأن ذلك سيؤدي لقمع رغبة إسرائيل في التوسع واحتلال المزيد من الأراضي العربية، وسرعان ما عاد بن غوريون لرئاسة الحكومة بعد إزاحته لموشى شاريت.

يذكر آرئيل شارون في مقابلة له في إحدى القنوات الغربية أن بن غوريون استدعاه بعد قيامه بإحدى المجازر ضد الفلسطينيين، وطلب منه ألا يهتم بما يقوله العالم عن إسرائيل، فالمهم أن تبقى إسرائيل مهما كان الثمن، وهذه النصيحة غدت منهجاً يتبعه جميع زعماء إسرائيل حتى الآن، فإسرائيل لا تهتم بالسخط والاستنكار العالميين بشأن مجازرها، ولا يمكنها القبول بالتفاوض وهي في موقع قوة، ولا يمكن أن تتنازل عن شبر من الأراضي التي احتلتها من تلقاء نفسها، فعلى الرغم من وجود قرارات من مجلس الأمن تُلزم إسرائيل بإعادة الأراضي التي احتلتها عام 1967، وبالرغم من قبول الفلسطينيين إقامة دولتهم على الضفة الغربية وقطاع غزة، إلا أن إسرائيل ترفض ذلك تماماً.

يدور في ذهني سيناريو «افتراضياً» عن العرب، في حال قدرتهم على اجتياح إسرائيل عسكرياً والقضاء عليها، هل يمكن للقارئ تصور ما يمكن أن يكون عليه رد فعل زعماء إسرائيل وقتذاك؟ من المؤكد أنهم سيترجون العرب وقتها للموافقة على العودة إلى حدود 1967 طبقاً لقرارات الأمم المتحدة -التي رفضتها إسرائيل عندما كانت في أوج قوتها- وسيتهم زعماء إسرائيل العرب وقتها بأنهم ينكثون تعهداتهم ويطالبونهم باحترام قرارات مجلس الأمن، وذلك لأن ذمة إسرائيل السياسية كالمطاط، يسهل تشكيله على نحو مختلف خلال أوقات النصر والهزيمة.